مدخل إلى علوم الشريعة(4)
( المذاهب الفقهية المشهورة )
الإمام أحمد بن حنبل والمذهب الحنبلي
ترجمة الإمام أحمد بن حنبل
هو أبو عبد الله أحمد بن حنبل الشيباني ، ولد ببغداد سنة 164هـ ، ثم رحل إلى مدن العلم ، وظل يطلب العلم ويعلمه حتى توفي سنة 241هـ .
وكان أحمد بن حنبل إماما في الحديث وفروعه ، إماما في الفقه ودقائقه ، إماما في الورع الزهد ، ثبت في محنة خلق القرآن ، ولم يجب السلطة إلى ما أرادوه منه فأوذي وعذب . لم يعتبره [ الإمام أحمد ] بعض المؤرخين من الفقهاء ، والصحيح أنه فقيه أثري .قال تلميذه عبد الوهاب بن عبد الحكم الوراق : ما رأيت مثل أحمد بن حنبل . قيل له : وإيش الذي بان لك من فضله وعلمه على سائر من رأيت؟ قال : رجل سئل عن ستين ألف مسألة فأجاب فيها بأن قال : حدثنا ، وأخبرنا … ولهذا قال أبو القاسم : أكثر الناس يظنون أن أحمد إنما كان أكثر ذكره لموضع المحنة [ محنة خلق القرآن ] ، وليس هو كذاك ، كان أحمد بن حنبل إذا سئل عن المسألة كأن علم الدنيا بين عينيه .
وقد أخذ العلم عن مشاهير العلماء في عصره ، ومن شيوخه الشافعي ، وأبو يوسف ، وعبد الرزاق الصنعاني .
أصول المذهب الحنبلي:
أجمل ابن القيم منهج الإمام أحمد في الفتوى في خمسة أصول :
1- نصوص الكتاب والسنة ، فإذا وجد نصا أفتى بموجبه ، ولم يلتفت إلى ما خالفه ، ولا من خالفه كائنا من كان . فلم يقدم على الحديث الصحيح عملا لأحد ، ولا رأيا له ، ولا قياسا ، ولا قول صحابي .
2- ما أفتى به الصحابة ، فإذا وجد لبعضهم فتوى لا يعرف لها مخالف بين الصحابة لم يتركها إلى غيرها ، ولم يقدم عليها قياسا ولا عملا لأحد بخلافها .
3- إذا اختلفت أقوال الصحابة في المسألة تخير من أقوالهم ما ظهر له أنه أقرب إلى الكتاب والسنة، فإن لم يظهر له ذلك ذكر أقوالهم ، ولم يجزم بقول منها . ولذلك تعددت أحيانا أقواله في المسألة الواحدة ، وأحيانا كان يتوقف فيها .
4- الأخذ بالحديث المرسل والحديث الضعيف ، إذا لم يكن هناك ما يرد أحدهما من النصوص ، وقد كان يقدمهما على القياس . والحديث الضعيف عنده هو ما روي بطرق غير قوية ، وليس من باب الكذب والاختلاق .
5- اللجوء إلى القياس للضرورة ، بحيث إذا لم يجد شيئا مما سبق من أصول لجأ إليه .
ونظرًا لقلة هذه الأصول ، وعدم كفايتها في قيام مذهب فقهي عليها ، نعت بعض العلماء الإمام أحمد بأنه محدث وليس فقيها ، حيث كان يسأل كثيرا في مسائل لا يجد فيها نصا ولا أثرا ، فكان يتوقف ولا يبدي رأيه فيها . والصواب أن الإمام أحمد كان إماما في الفقه ، ويميل في فقهه للأثر ، أي كان فقيها أثريا ، كأنه من فقهاء الحجاز ، على الرغم من كونه من فقهاء العراق .
والأمر الثاني الذي ترتب على قلة أصول الإمام أحمد في منهجه الفقهي ، هو أن تلاميذه وأتباعه زادوا من هذه الأصول ؛ حتى يكتب لمذهبهم الدوام وتلبية احتياجات الناس . فزادوا عليها المصالح ، وسد الذرائع ، والاستحسان ، والاستصحاب ، وغير ذلك من أصول للأحكام .
ويعد أساس المذهب الحنبلي في كتاب إمامهم ( المسند ) ، وهو كتاب جمع فيه الإمام أحمد ما يقرب من ثلاثين ألف حديث مسند ، وقد شملت هذه الأحاديث والآثار جميع أبواب الفقه ، على الرغم من ترتيبها على جعل أحاديث كل صحابي على حدة ، وقد رتب الشيخ عبد الرحمن البنا ـ والد الشيخ حسن البنا ـ أحاديث المسند وآثاره ترتيبا فقهيا مع شرحها ، وذلك في كتابه الضخم ( الفتح الرباني في ترتيب مسند أحمد بن حنبل الشيباني ) .
تلاميذ الإمام أحمد :
1- الأثرم : أحمد بن محمد بن هانئ الطائي ، مات سنة 275هـ .
2- الحربي : إبراهيم بن إسحاق الحربي ، مات سنة 285هـ .
3- الخِرَقي : أبو علي الحسين بن إسحاق .
ومن أشهر أتباع المذهب الحنبلي الإمامان الجليلان : ابن تيمية ( ت 728 هـ ) ، وابن القيم ( ت هـ 756 ).
أسباب قلة أتباع المذهب الحنبلي
1- أنه جاء بعد أن احتلت المذاهب الثلاثة التى سبقته الأمصار الإسلامية .
2- لم يكن منه قضاة ، والقضاة إنما ينشرون المذهب الذى يتبعونه ، كما حدث من أبى يوسف بالنسبة للمذهب الحنفى ، وأسد بن الفرات بالنسبة للمذهب المالكى . وقد أخذت المملكة العربية السعودية فى تطبيقه فى القضاء ، ومنذ ذلك الحين أخذ فى الانتشار ، وأعيد طبع كتبه وزاد الاهتمام به .
شدة بعض الحنابلة وقسوتهم مع مخالفيهم ؛ بحجة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر : من ذلك ما فعله بعض الحنابلة مع ابن جرير الطبري ، فقد سألوه في المسجد الجامع يوم الجمعة ، عن أحمد بن حنبل وعن مسألة في العقيدة ، فأجابهم بما استثار حفيظتهم ، ورأوا أن في ضربه تقربا لله تعالى ، فرموه بمحابرهم ، وكانت كثيرة جدا ، فقام الطبري مسرعا ، ودخل داره ليحتمي فيها ، فرموا داره بالحجارة ، حتى تكوّن على باب داره ما يشبه التل العظيم من الحجارة، وجاءت وفرة وفيرة من الجند تحميه وتحمي داره منهم .
3- تشددهم فى الحكم فى باب الطهارة والنجاسة، فكانوا يحتاطون ويحكمون بالنجاسة على كثير مما اختلف فيه .
المذاهب الفقهيةغير المشهورة
( الإباضية ) ، ( الزيدية ) ، ( الإمامية )
والمندثرة
( مذهب الأوزاعي ) ، ( مذهب الثوري ) ، ( مذهب الليث ) ، ( مذهب داود )
المذهب الإباضي
يعد هـذا المذهب من أوائل المذاهب نشوءا ، وينسب إلى عبد الله بن إباض المتوفى سنة 80هـ تقريبا ، ويحيط الغموض تاريخيا هذه الشخصية ، ولذلك اعتبر بعض الباحثين أن جابر بن زيد ـ المتوفى سنة 93هـ على الأرجح ـ هو المؤسس الحقيقي لهذا المذهب ، وما ورد عنه من نفي اتصاله بالإباضية ، محمول على أنه كان يستخدم مبدأ التَّقية ؛ حتى يتفادى أذى أهل السلطة .
وأهم أصول المنهج الفقهي لهذا المذهب : الكتاب والسنة والإجماع . ومن أشهر كتبهم الفقهية ( شرح النيل ) ، ( العقد الثمين ) .
مذهب الزيدية
ينسب هذا المذهب إلى الإمام زيد بن علي زين العابدين ( 80 ـ 122هـ ) . والمذهب الزيدي أقرب مذاهب الشيعة إلى مذهب أهل السنة والجماعة ، فهم معتدلون في آرائهم الفقهية ، والفرق بينهم وبين مذاهب أهل السنة في الفقه في مسائل قليلة ، مثل ( حي على خير العمل ) في الأذان ، ورفضهم المسح على الخفين ، وتحريم نكاح الكتابيات ، ويتفقون مع أهل السنة في تحريم المتعة الذي تبيحه فرق أخرى من الشيعة كالإمامية . ومن أسباب هذا التقارب بين الزيدية وأهل السنة هو أن السنة عند الزيدية لا تقتصر على المروي عن أهل البيت وحدهم ، بل يقبلون رواية العدل أيضا من أهل السنة .
والأصول التي يقوم عليها المذهب الزيدي هي :
أحكام العقل القطعية غير القابلة للاحتمال ، ويسمونها قضايا العقل المبتوتة ؛ وذلك لأنه ليس في الإسلام ما يناقض العقل . مثل وجوب طلب العلم على المسلمين ، فلو ادعى بعض أصحاب الطرق البدعية أن طلب العلم على المسلمين غير واجب ؛ لأن المسلمين لا يطلبون الدنيا ويطلبون الآخرة ….. لكان هذا مناقضا لأحكام العقل القطعية ، وهي أن الجميع لا يختلف في أهمية العلم لكل الأمم ، المسلمة وغير المسلمة ، فطلب العلم مسلمة إنسانية وليست إسلامية فحسب . حتى طلب الآخرة لا بد له أيضا من العلم .
ثم يلي أحكام العقل القطعية الإجماع القطعي المتواتر ، وهو ما يسمى عند الفقهاء المعلوم من الدين بالضرورة ، مثل كون صلاة المغرب ثلاث ركعات . ثم يلي ذلك القرآن الكريم ، فالسنة ، فإجماع الفقهاء في غير ما علم من الدين بالضرورة. مثل دخول الحمام ـ السونا ـ بالشروط الشرعية مقابل مبلغ محدد ، فالاتفاق هنا غير منضبط ؛ لعدم العلم بالمدة الزمنية التي يستغرقها الداخل ، وعدم تحديد كمية المياه المستخدمة ، ولكن الفقهاء منهم من صرح بجوازه ، ومنهم من سكت عنه دون إنكار عليه ، فكان هذا إجماعا منهم ، أو ما يشبه الإجماع .ثم يلي ذلك الرأي بأنواعه : القياس ، والاستحسان ، والمصلحة ، وحكم العقل غير القطعي ، فما رآه عقل المجتهد حسنا شرعا أجازه ، وما رآه قبيحا منعه … كما امتاز المذهب الزيدي باستمرار الاجتهاد فيه ، وعدم إغلاق باب الاجتهاد ؛ لأن الزيدية يشترطون في الإمام أن يكون مجتهدا .
ومن أشهر كتب الزيدية : كتاب المجموع للإمام زيد نفسه ، وهو كتاب في الفقه ، وشرحه الحسيني الصنعاني في كتابه الروض النضير . كما للزيدية كتاب الأحكام للهادي الرَّسِّيِّ ، وكتاب البحر الزخار لمذاهب علماء الأمصار لابن المرتضَى .
مذهب الإمامية
وسبب تسميتهم بالإمامية هو أنهم يشترطون شروطا خاصة في الإمام . ويطلق عليهم أيضا الاثنا عشرية ، وسبب هذه التسمية هو أن الأئمة عندهم اثنا عشر إماما ، أولهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وآخرهم محمد المهدي المنتظر بن الحسن العسكري . كما يطلق عليهم كذلك الجعفرية وسبب هذه التسمية هو نسبتهم إلى الإمام جعفر الصادق ( 80 ـ 142هـ ) وهو أحد الأئمة الأعلام في العلم والفقه ، وهو أيضا الإمام السادس عندهم .
ومن أهم مبادئهم الإيمان بالمهدى المنتظر ، ويؤمنون كذلك بالرجعة ، أى رجعة النبى صلى الله عليه وسلم ، التى ستكون بعد ظهور الإمام المهدى المنتظر ، ومن مبادئهم أيضا التَّقية ، وهى المدارة والمصانعة وإظهار الطاعة لمن بيدهم الأمر ، مع الدعوة سرا للإمام المختفى . كما يرون أن النبى ص نصّب عليا رضي الله عنه للخلافة أثناء حياته .
وأصول مذهبهم تنحصر فى الكتاب والسنة والإجماع والعقل . والسنة عندهم ليست مقتصرة على أقوال النبي صلى الله عليه وسلم ، بل تشمل أيضا أقوال أئمتهم ؛ لأنهم يعتقدون أن ما عند أئمتهم هو من عند النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس من اجتهادهم . والإجماع عندهم مقيد بأن يكون اتفاقا يكشف عن رأى الإمام . والعقل عندهم أيضا لا بد أن ينتهى إلى المصلحة . ولا يأخذون بالقياس ؛ لأنه عندهم رأي ، والدين لا يبنى على آراء الرجال .
ومن أشهر فروع المذهب الفقهية تجويز نكاح المتعة ، وهو محرم عند جميع أهل السنة ، كما أن الزيدية ـ وهم أقرب فرق الشيعة لأهل السنة ـ يحرمونه أيضا . ومن فروعهم الفقهية كذلك أنهم ينكرون المسح على الخفين ، ويقدمون ابن العم الشقيق على العم لأب فى الميراث .
الإمام الأوزاعي ومذهبه
هو أبو عمرو عبد الرحمن بن محمد الأوزاعي ، (88 ـ 157هـ ) ، كان إمام أهل الشام . وأسس فقهه على الحديث، كما أخذ بسد الذرائع والاستصحاب، وكان يكره التوسع في القياس .
كما كان رحمه الله ورعا دينا ، لا يخشى فى الله لومة لائم . استفتاه عبد الله بن علي عم الخليفة العباسى السفاح فى دماء بنى أمية . فقال : هى عليك حرام . وظل أهل الشام يعملون بمذهبه إلى أن حل محله مذهب الشافعى . كما كان لمذهب الأوزاعى السطوة فى أوائل حكم الأمويين للأندلس ، ولكنه ما لبث أن ضعف أمام مذهب الإمام مالك فيها حتى اندثر .
وللأوزاعي كتاب ( السنن ) في الفقه ، كما يقدر ما سئل عنه بسبعين ألف مسألة ، أجاب عن جميعها .
الإمام الثوري ومذهبه
هو أبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري الكوفي ( 97 ـ 161هـ )،كان من الأئمة المجتهدين، لكن مذهبه لم يكثر أتباعه ولم يطل تقليده .
وكان فقهه يقوم على الحديث ، فهو أمير المؤمنين فيه . كما أخذ الثوري بالإجماع ، وهو عنده ما يشمل المسائل الاجتهادية ، التى لا تدخل فى نطاق المعلوم من الدين بالضرورة . كما كان يأخذ بقول الصحابة ويختار من أقوالهم . وكان يأخذ أيضا بالقياس ، وإن كانت دائرته لديه ضيقة . كما أخذ بسد الذرائع .
الإمام الليث ومذهبه
هو أبو الحارث الليث بن سعد الفهري ( 94 ـ 175هـ ) ، ولد بمصر ومات بها ، وهو فقيه مصر في زمانه ، وكانت بينه وبين الإمام مالك مساجلات ومكاتبات ، وقال عنه الإمام الشافعي : ( الليث أفقه من مالك ، إلا أن أصحابه لم يقوموا به ) .
أي أن أصحابه لم ينشروا فقهه كما فعل أصحاب أئمة المذاهب المتبوعة ، فلا يلزم من كون الرجل عالما سعة وفهما ، أن يدوم علمه وتتناقله الأجيال ، فقد يعرض له من الأسباب ما تزوي علمه ، وهذا ما حدث لفقيه مصر الليث بن سعد ، فقد كان الليث من أصحاب مالك ثم استقل عنه ، ولما كانت مصر هي الحصن الأول الذى انتشر به مذهب مالك لم يقدر المصريون الليث حق قدره ، ولأن الإمام الليث نفسه لم يهتم بهذا الأمر، بل كان يأخذ العلم مأخذ الترف ، ولم تكن له الشخصية التي تجذب طلاب العلم إليه وتحملهم على تسجيل أقواله ، رغم سعة علمه وقوة حجته وإخلاصه وورعه ، ولذلك ضاع علمه مبكرا ، ولم يبق منه إلا ما تبادله مع الإمام مالك من رسائل ، وما هو متناثر من أقوال في بطون الكتب ، بل إنه من المؤسف أن الأقوال المنقولة عنه في هذه الكتب فيها شيء من التناقض .
والأصول التي يمكن الوقوف عليها من فقه الليث ، هو أنه كان يأخذ بالسنة ، وكان يرى أن كل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم فهو واجب ، كما كان يرى جواز تخصيص الكتاب بالسنة . وأخذ بالإجماع ، ورفض إجماع أهل المدينة المتأخرين ، أي أنه يفهم الإجماع على أنه إجماع الصحابة فقط . وكان يختار من أقوال الصحابة عند اختلافهم . وأخـذ بالاجتهاد بالمعنى العام ، وليس بين أيدينا من فقهه ما يؤكد أخذه بالقياس ، وقد وجد من أقواله ما يفيد أخذه بالاستصحاب .
الإمام داود الظاهري ومذهبه
هو أبو سليمان داود بن علي الظاهري الأصفهاني ( 200 ـ 270هـ ) ، كان شافعيا ثم استقل بمذهب فقهي خاص به ، وكان له أتباع ، ولكن مذهبه أخذ في الانزواء حتى كاد أن ينسى، إلى أن جاء ابن حزم الأندلسي ( ت 456هـ ) الذي اعتنق المذهب ، ودافع عنه بكل ما أوتي من علم ، فصنف ( الإحكام في أصول الأحكام ) حيث شرح فيه الأصول التي بني عليها المذهب الظاهري ، وصنف أيضا ( المحلى ) في فروع المذهب ، واستعرض فيه كل الفقه ، حيث يذكر رأي الظاهرية في كل مسألة وأدلتهم ، ثم يقارنها بآراء الفقهاء الآخرين . وكل من الكتابين مطبوع ومتداول . وعلى الرغم من إحياء ابن حزم للمذهب ، فإنه لم يدم بعده ، وأخذ في الانحسار إلى أن انقرض .
وأهم ما يميز المذهب الظاهري عن غيره من المذاهب الفقهية ، هو إنكاره القياس ، والعمل بظواهر النصوص .
ولذلك اقتصرت أصول المذهب على نصوص الكتاب والسنة والإجماع ، فلا قياس ولا مصالح مرسلة ولا عرف ولا استحسان ولا غير ذلك من أصول الأحكام وأدلتها .
كما أن هذه الأصول تقوم على أساس العمل بظاهر نصوص الكتاب والسنة ، ما لم يقم دليل على إرادة غير الظاهر . ويرى الظاهرية أن النصوص كافية في تلبية حاجات المسلم ، ولكن عند عدم وجودها ـ فرضا ـ يرجع إلى الإجماع ، ويشترطون في الإجماع أن يقوم على اتفاق جميع علماء الأمة . وتجدر الإشارة إلى أن خلاف الظاهرية ينقض إجماع مجتهدي الأمة ، إذا كان خلافهم في غير القياس .
ونتيجة لاعتماد المذهب الظاهري على هذه الأصول القليلة ، بدا مضيقا على الناس وموقعا في الحرج ، خاصة في المعاملات ، من ذلك أنه لا يجوز عندهم أي عقد إلا إذا كان عليه دليل مباشر من الكتاب أو السنة أو الإجماع .
وقد نتج عن قلة هذه الأصول أيضا صدور أحكام فقهية لم تصدر إلا عنهم ، مثل ما ذكروه من وجوب نفقة الزوج على الزوجة حال إعساره ؛ عملا بقوله تعالى (r) فيرى داود الظاهري أن الزوجة وارثة فعليها نفقته . ونتيجة لهذا كله لم يكتب لهذا المذهب الدوام ، وبقي مدونا في الكتب دون أن يكون له جماعة تتبعه .
نصرة المذاهب الفقهية ثم انتشار التقليد والجمود
يبدأ هذا الدور الخامس من منتصف القرن الرابع الهجري ( 350هـ ) ، وينتهي بمشارف العصر الحديث وظهور مجلة الأحكام العدلية ( 1293هـ ـ 1876م ) . ويعد هذا الدور هو أطول أدوار الفقه الإسلامي الستة على الإطلاق ، ولذلك يمكن تقسيم هذا الدور أو الطور أو الفترة أو المرحلة إلى مرحلتين داخليتين : الأولى من منتصف القرن الرابع الهجري ( 350هـ ) إلى سقوط بغداد على يد التتار ( 656هـ ) ، والثانية من سقوط بغداد ( 656هـ ) إلى مشارف العصر الحديث وظهور مجلة الأحكام العدلية ( 1293هـ ـ 1876م ) .
وخصائص المرحلة الأولى : من ( 350هـ ) إلى ( 656هـ ) :
1.ظهور بداية التقليد وأسبابه . 2.سد باب الاجتهاد . 3.نصرة المذاهب الفقهية .
واقتصر دور الفقهاء في المرحلة الثانية على :
* تأليف المتون وشروحها وحواشيها . * تأليف كتب الفتاوى .
ظهور بداية التقليد وأسبابه :
تغير حال الفقهاء في هذا العهد ، فبعد أن كانوا من ذوي أهلية الاجتهاد في كل ما يستجد، تغيرت أحوالهم وصاروا مقلدين لسالفيهم من كبار الفقهاء ، ويمكن إرجاع أسباب هذا التقليد والضعف الفقهي إلى ما يأتي :
1- الضعف السياسي ، ومن ثم ضعف الحكام وعدم تشجيعهم للبحث العلمي عامة والفقهي خاصة .
2- كان الفقه الإسلامي قد دون على شكل مذاهب متنافسة ، وقد ألفت فيه المصنفات ذات التبويب والتفصيل الجيد ، مما أدى إلى الكسل والاعتقاد بأن الأوائل لم يتركوا للأواخر شيئا.
3- استهانة كثير من فقهاء هذا العصر بأنفسهم ، بقدر اعتزازهم بأسلافهم وشيوخهم في المذهب وأئمتهم ، فلم يروا في أنفسهم الجدارة بالاجتهاد كما اجتهدوا ، على الرغم من أن بعضهم كان لا يقل عن شيوخه تمتعا بالملكة الفقهية ، بل قد أتيحت لهم من وسائل البحث ومصادره ما لم يتح لسابقيهم .
4- الالتزام في القضاء بالحكم بمذهب بعينه ، الأمر الذي أدى إلى تجميد الفقه وعدم استجابته لما يستجد في حياة الناس من معاملات ونزاعات .
5- التعصب المذهبي الذي ساد القرون التي تلت القرن الثالث ، فقد احتدمت المجادلات بين المذاهب الفقهية ، خاصة في المذاهب التي كانت تتجاور بين الأقاليم ، كالمذهب الحنفي والشافعي .
سد باب الاجتهاد
لما رأى كبار فقهاء هذا العصر اختلاف الفتاوى ، وانضمام أدعياء العلم ومن لا خبرة له بهذا الأمر إلى زمرة أهل العلم ، خشوا على دين الناس ، فنادوا بسد باب الاجتهاد حتى يسدوا الطريق أمام الجهلة والأدعياء ، ولكنهم أخطئوا فى ذلك من حيث أرادوا الإصلاح ، فقد كان الواجب يقتضيهم أن ينشروا فى الأمة العلم ، وأن يمنعوا الاجتهاد إلا على أهله ، لأنه قد نتج عن دعوتهم ـ سد باب الاجتهاد ـ جمود الفقه الإسلامى ، فإن أقوال الأقدمين ـ مهما كانت سابقة لعصرها ـ تصبح عاجزة أمام تطور أحداث الزمن ، وما صلح لحل مشاكل الناس فى زمن لا يلزم عنه بالضرورة صلاحيته لحل مشاكلهم فى كل عصر وحين ، وإنما يستعين أهل كل عصر منهم بمن سبقهم وطرائق تفكيرهم ، انطلاقا منها لحل مشاكلهم المعاصرة ، وإن كان هذا لم يمنع من حل مشاكل الناس عن طريق الفقهاء والقضاء والمفتين ، لكن مع تكبد المصاعب والمشقات .
ومن باب الإنصاف فإن الحنابلة رفضوا القول بسد باب الاجتهاد ، وكذلك الشيعة الزيدية والإمامية والخوارج .
نصرة المذاهب الفقهية
اكتفى الفقهاء في هذه المرحلة بالانتصار للمذاهب الفقهية،واتخذ هذا الأمر عدة أشكال منها :
1- تعليل أحكام الأئمة السابقين فيما أفتوا فيه ، حيث قام فقهاء هذه المرحلة بتعليل هذه الأحكام والأقوال؛ حتى يخرّجوا عليها أحكام ما يستجد لهم من أحداث، ويعرف هذا بالتخريج، وهو إلحاق فرع بالأحكام والأقوال التي نص عليه الإمام . فصار قول الإمام موازيا للنص الشرعي .
2- استخلاص قواعد الاستنباط من أحكام أئمتهم، وذلك عن طريق دراسة فتاواهم وأحكامهم ، ومعرفة مناحي ومناهج تفكيرهم وطريقتهم في استنباط الأحكام ، ثم الموازنة بين أقوال الإمام المنقولة عنه لمعرفة الصحيح منها من غير الصحيح ، والمتقدم منها والمتأخر ، بالإضافة إلى مقارنة أقوال الإمام بأقوال أصحابه وكبار تلاميذه ، وبيان الراجح منها .
3- تنظيم فقه المذهب ، وذلك بتنظيم أحكامه وتوضيح مجملها وتقييد مطلقها، والتعليق عليها ، ودعمها بالأدلة ، وذكر المسائل الخلافية مع المذاهب الأخرى ، وتحرير محل الخلاف ومواضع الاتفاق ، وذكر الأدلة لدعم اتجاه المذهب ونصرته على المذاهب الأخرى وبيان رجحانه عليها .
وقد ازداد هـذا الوضع سوءا منذ سقوط بغداد سنة ( 656هـ ) حتى مشارف العصر الحديث .
وفي هذه المرحلة الثانية لهذا الدور استمر الفقه الإسلامى في تدهوره وضعفه ، بل زاد هذا التدهور وهذا الضعف ، فقد أصبح التقليد شيئا معتادا كأنه هو الأصل ، وبات من يحاول أن يكسر حدة هذا الجمود خارجا عن الإجماع ، مرميا بكل نقيصة .
وممن حاولوا الاجتهاد في هذا الطور والعودة بالفقه الإسلامى إلى منابعه الصافية ومصادره الأصيلة ، وعصر ازدهاره ونضجه : شيخ الإسلام ابن تيمية : أحمد بن عبد الحليم (ت728هـ) وكذلك تلميذه ابن القيم ، كما كان للشاطبى فى الأندلس نفس المحاولة ، ثم تبعهم بعد ذلك الشوكاني ، ممن أنفوا الخنوع ، وسمت بهم هممهم ، ورفضوا أن يكونوا مجرد أوعية للعلم .
ومن الغريب في هذه المرحلة أن يكون اهتمام الناس ، هو التساؤل عن حكم التمذهب بأحد المذاهب الأربعة ، وحكم من ينتقل من مذهب إلى مذهب ، وكأنه ينتقل من دين الإسلام إلى دين آخر ، علما بأن المذاهب الفقهية المتبوعة والمدونة والمندرسة كلها ليست كل الشريعة ، بل هى جزء منها .
تأليف المتون وشروحها وحواشيها
اقتصر دور الفقهاء في مرحلة التقليد والجمود التي تلت سقوط بغداد ، في مجال التأليف الفقهي ، على تأليف المتون بشروحها وحواشيها ، وعلى تدوين الفتاوى .والمتن الفقهي هو كتيب يلخص فيه المؤلف مسائل المذهب الفقهية ، ويكتبه بلغة مختصرة ومركزة ، وأحيانا يأتي هذا التركيز والاختصار في صورة حسنة ومقبولة ، وأحيانا يأتي في صورة ركيكة وضعيفة ، وأحيانا يأتي في صورة ملغزة وغير واضحة .
وقد اختلف الدارسون تجاه هذه المتون ، فمنهم من أنكرها ورأى أنه من الأجدر بها أن تحذف من مكتبة الفقه الإسلامي ، وتمحى من ذاكرة العقل الفقهي . ومنهم من أثنى عليها ، وجعلها محطا للفوائد العلمية والفقهية .
ومن النماذج في تأليف المتون الفقهية ، والذي كتب له البقاء وحظِي بالعناية والدرس ، متن ( بداية المبتدي ) للمرغيناني الحنفي ( ت 593هـ ) ، وقد شرحه المرغيناني نفسه في الهداية شرح البداية ، وقد شرح الهداية كل من البابرتي في العناية ، وابن الهمام في فتح القدير . وقد طبع هذا المتن وشروحه في كتاب واحد ، كما طبعوا منفصلين .
تأليف كتب الفتاوى
وهذا هو الجناح الثاني للتأليف الفقهي في هذه المرحلة ، وهذا أيضا لا يعني بطبيعة الحال انعدام التأليف في غير مجالي المتون والفتاوى ، وإنما نشير فقط إلى أن أغلب التأليف الفقهي كان منصبا في هذين الاتجاهين ، خاصة الاتجاه الأول الخاص بالمتون وشروحها وحواشيها .
والفتاوى هي إجابات لأسئلة وأحيانا بدون أسئلتها ، والحق أن هذه الفتاوى لها أهميتها لما تعكسه من حالة العصر في جميع جوانبه ، ولما تعكسه كذلك من اهتمام الناس ومدى ثقتهم بعلمائهم وفقهائهم . وقد امتازت هذه الفتاوى ـ أحيانا ـ بذكر أدلتها ، واختيار أصحابها ، كما ألجأت بعض الفقهاء إلى لون من الاجتهاد ، الذي قد يقوى وقد يضعف حسب منزلة المفتي ومكانته العلمية ، وتحصيله وفهمه لمقاصد الشريعة الإسلامية ، ووظيفة الفقه من وجهة نظره ، وفهمه ووعيه بحركة الحياة من حوله .
ومن هذه الكتب : الفتاوى البزازية لابن البزاز الكردي ، وفتاوى ابن تيمية ، وفتاوى السبكي ، وفتاوى ابن حجر الهيتمي ، والفتاوى الهندية لمجموعة من علماء الهند .
وهكذا ظل الفقه الإسلامى يزداد كل يوم ضعفا على ضعفه ، عدا بعض النجوم التى ظلت تتلألأ في سمائه من حين لآخر ، حتى بدأ يسترد عافيته على مشارف العصر الحديث ، ويزداد قوة يوما بعد يوم ، ونرجو من الله سبحانه أن يعود لازدهاره كما كان ، ونراه مطبقا في حياة الأفراد والأسر والمجتمعات والأمة كما كان أيضا .